فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (85):

قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انقضت هذه القصة العجيبة في القصص، أعاد النسق الأول فقال: {وإلى مدين} أي أرسلنا، وهي بلد، وقيل قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام {أخاهم} أي من النسب، وبينه بقوله: {شعيبًا} وهوموصوف بأنه خطيب الأنبياء عليهم السلام لحسن مراجعة قومه؛ ثم استأنف قوله على ذلك النسق: {قال يا قوم} دالًا على النصيحة والشفقة بالتذكير بالقرابة، وبدأ بالأصل المعتبر في جميع الشرائع المأثورة عن الأنبياء عليهم السلام فقال: {اعبدوا الله} أي الذي يستحق العبادة لذاته بما له من السماء الحسنى والصفات العلى.
ولما كان المراد إفراد بالعبادة لأنه لا يقبل الشرك لأنه غني، علل ذلك بقوله: {ما لكم} وأغرق في النفي بقوله: {من إله غيره} ثم استأنف التذكير بما دل على صحة دعواه في نفسها وصدقه في دعوى الرسالة بقوله: {قد جاءتكم} أي على يدي {بينة} ولما كنا عالمين من قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه «ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» أن هذه البينة معجزة، مثلها كاف في صحة الدعوى ولم تدع ضرورة إلى ذكرها لنا، لم تعن؛ ثم زادهم ترغيبًا بقوله: {من ربكم} أي الذي لم تروا إحسانًا إلا منه.
ولما كان إتيانه بالبينات سببًا لوجوب امتثال أمره، قال مسببًا عنه: {فأوفوا الكيل} أي والمكيال والوزن {والميزان} أي ابذلوا ما تعطون بهما وافيًا، فالآية من الاحتباك، وكان المحكي عنه هنا من أوائل قوله لهم فترك التأكيد الرافع لمجاز المقاربة بذكر القسط.
ولما كان الأمر بالوفاء يتضمن النهي عن البخس، صريح به على وجه يعم غيره فقال: {ولا تبخسوا} أي تنقصوا وتفسدوا كما أفسد البخسة {الناس أشياءهم} أي شيئًا من البخس في كيل ولا وزن ولا غيرهما، والناس- قال في القاموس- يكون من الإنس ومن الجن جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل، وقال أبو عبد الله القزاز: الناس أصله عند البصريين أناس، ثم أدخلوا الألف واللام على ذلك وحذفوا الهمزة وبقي الناس، وكان أصله فعال من: أنست به، فكأنه قيل: أناس- يعني على القلب، قال: لأنه يؤنس إليهم- انتهى.
إذا علم هذا علم أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بخس الجمع الذين فيهم قوة المدافعة نهى عن بخس الواحد من باب الأخرى لأن الشرائع إنما جاءت بتقوية الضعيف على حقه.
ولما نهى عن الفساد بالبخس، عم كل فساد فقال: {ولا تفسدوا} أي توقعوا الفساد {في الأرض} بوضع شيء من حق الحق أو الخلق في غير موضعه؛ ولما نهاهم عن هذه الرذائل، ذكر بنعمة الله تاكيدًا للنهي بما في ذلك من التخويف وحثًا على التخلق بوصف السيد فقال: {بعد إصلاحها} أي إصلاح الله لها بنعمة الإيجاد الأول بخلقها وخلق منافعها وما فيها على هذا النظام البديع المحكم ثم بنعمة الإبقاء الأول بإنزال الكتب وإرسال الرسل ونصب الشرائع التي بها يحصل النفع وتتم النعمة بإصلاح أمر المعاش والمعاد بتعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله، ويجمع ذلك كله التنزه عن الإساءة.
ولما تقدم إليهم بالأمر والنهي، أشار إلى عظمة ما تضمنه ذلك حثًا لهم على امتثاله فقال: {ذلكم} أي الأمر العظيم العالي الرتبه مما ذكر في هذه القصة {خير لكم} ولما كان الكافر ناقص المدارك كامل المهالك، أشارإلى ذلك بقوله: {إن كنتم مؤمنين} أي فلا تفسدوا أو فأنتم تعرفون صحة ما قلته، وإذ عرفتم صحته عملتم به، وإذا عملتم به أفلحتم كل الفلاح، ويجوز- وهو أحسن- أن يكون التقدير: فهو خير لكم، لأن المؤمن يثاب على فعله لبنائه له على أساس الإيمان، والكافر أعماله فاسده فلا يكون فعله لهذه الأشياء خيرًا له من جهة إسعاده في الآخرة لأنه لا ثواب له. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:
القراءة كما مر.

.الوقوف:

{شعيبًا} ط {غيره} ط {إصلاحها} ط {مؤمنين} ج o لعطف المتفقتين أو وقوع العارض أو رأس الآية: {عوجًا} ج لاتفاق الجملتين مع طول الكلام {فكثركم} ج لعطف المتفقتين {المفسدين} o {بيننا} ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف {الحاكمين} o {ملتنا} ط {كارهين} o وقيل لا وقف لأن الابتداء بقوله: {وقد افترينا} قبيح قلنا إذا كان محكيًا عن شعيب كان أقبح ولكن الكلام معلق بشرط يعقبه. {منها} ط {الله} ط {ربنا} ط {علمًا} ط {توكلنا} وللعدول {الفاتحين} o {الخاسرون} o {جاثمين} o ج إن وصل وقف على {كأن لم يغنوا فيها} على جعل {الذين} بدلًا من الضمير في {أصبحوا} و{كأن لم يغنوا} حال لمعنى في الجاثمين. وإن على {الذين} مبتدأ خبره {كأن لم يغنوا} وقف على {جاثمين} وعلى {شعيب} ويستأنف ب {كانوا} ولا يخلو من تعسف. {الخاسرين} o {ونصحت لكم} ط لأن {كيف} للتعجب فيصلح للابتداء مع أنه فيه فاء التعقيب. {كافرين} o. والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة، وقد ذكرنا أن التقدير: {وَأَرْسَلْنَا إلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا} وذكرنا أن هذه الأخوة كانت في النسب لا في الدين، وذكرنا الوجوه فيه، واختلفوا في مدين فقيل: إنه اسم البلد، وقيل: إنه اسم القبيلة بسبب أنهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام، ومدين صار اسمًا للقبيلة، كما يقال: بكر وتميم وشعيب من أولاده، وهو: شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن.
واعلم أنه تعالى حكى عن شعيب أنه أمر قومه في هذه الآية بأشياء: الأول: أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله، وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء.
فقال: {اعبدوا الله مَالَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ} والثاني: أنه ادعى النبوة فقال: {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} ويجب أن يكون المراد من البينة هاهنا المعجزة، لأنه لابد لمدعي النبوة منها، وإلا لكان متنبئًا لا نبيًا، فهذه الآية دلت على أنه حصلت له معجزة دالة على صدقه.
فأما أن تلك المعجزة من أي الأنواع كانت فليس في القرآن دلالة عليه، كما لم يحصل في القرآن الدلالة على كثير من معجزات رسولنا.
قال صاحب الكشاف: ومن معجزات شعيب أنه دفع إلى موسى عصاه، وتلك العصا حاربت التنين، وأيضًا قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولادًا فيها سواد وبياض، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه.
ثم قال: وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام، لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة.
واعلم أن هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين أصحابنا، وبين المعتزلة وذلك لأن عندنا أن الذي يصير نبيًا ورسولًا بعد ذلك، يجوز أن يظهر الله عليه أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي، ويسمى ذلك إرهاصًا للنبوة، فهذا الإرهاص عندنا جائز، وعند المعتزلة غير جائز، فالأحوال التي حكاها صاحب الكشاف هي عندنا إرهاصات لموسى عليه السلام، وعند المعتزلة معجزات لشعيب لما أن الإرهاص عندهم غير جائز، والثالث: أنه قال: {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان}.
واعلم أن عادة الأنبياء عليهم السلام إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالًا أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدأوا يمنعهم عن ذلك النوع، وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف، فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة فقال: {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان} وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: الفاء في قوله: {فَأَوْفُواْ} توجب أن تكون للأمر بإيفاء الكيل كالمعلول والنتيجة عما سبق ذكره وهو قوله: {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} فكيف الوجه فيه؟
والجواب: كأنه يقول البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشيء القليل.
وهو أمر مستقبح في العقول، ومع ذلك قد جاءت البينة والشريعة الموجبة للحرمة، فلم يبق لكم فيه عذر {فَأَوْفُواْ الكيل}.
السؤال الثاني: كيف قال: {الكيل والميزان}، ولم يقل {المكيال والميزان} [هود: 84] كما في سورة هود؟
والجواب: أراد بالكيل آلة الكيل، وهو المكيال، أو يسمى ما يكال به بالكيل، كما يقال العيش لما يعاش.
والرابع: قوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ} والمراد أنه لما منع قومه من البخس في الكيل والوزن منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه، ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة، وأخذ الرشوة، وقطع الطريق وانتزاع الأموال بطريق الحيل.
والخامس: قوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض بَعْدَ إصلاحها} وذلك لأنه لما كان أخذ أموال الناس بغير رضاها يوجب المنازعة والخصومة، وهما يوجبان الفساد، لا جرم قال بعده: {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض بَعْدَ إصلاحها} وقد سبق تفسير هذه الكلمة، وذكروا فيه وجوهًا فقيل: {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض بَعْدَ إصلاحها} بأن تقدموا على البخس في الكيل والوزن، لأن ذلك يتبعه الفساد.
وقيل: أراد به المنع من كل ما كان فسادًا حملًا للفظ على عمومه.
وقيل: قوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} منع من مفاسد الدنيا وقوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض} منع من مفاسد الدين حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين، واختلفوا في معنى {بَعْدَ إصلاحها} قيل: بعد أن صلحت الأرض بمجيء النبي بعد أن كانت فاسدة بخلوها منه، فنهاهم عن الفساد، وقد صارت صالحة.
وقيل: المراد أن لا تفسدوا بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيهم، وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين التعظيم لأمر الله، ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة، والشفقة على خلق الله، ويدخل فيه ترك البخس، وترك الإفساد، وحاصلها يرجع إلى ترك الإيذاء، كأنه تعالى يقول: إيصال النفع إلى الكل متعذر.
وأما كف الشر عن الكل فممكن، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الخمسة.
قال: {ذلكم} وهو إشارة إلى هذه الخمسة، والمعنى: خير لكم في الآخرة إن كنتم مؤمنين بالآخرة، والمراد: أترك البخس وترك الإفساد خير لكم في طلب المال في المعنى لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة، رغبوا في المعاملات معكم، فكثرت أموالكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي إن كنتم مصدقين لي في قولي. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا} يعني أرسلنا إلى مدين نبيّهم شعيبًا ومدين هو آل مدين وكان مدين بن إبراهيم خليل الرحمن، تزوج ريثاء ابنة لوط، فولدت آل مدين، فتوالدوا وكثروا، ثم صار هو اسمًا للمدينة، فسميت المدينة مدين، وسمي أولئك القوم مدين.
فكفروا بالله تعالى ونقصوا المكيال والميزان في البيع، وأظهروا الخيانة فبعث الله تعالى إليهم شعيبًا.
وقال الضحاك كان شعيب أفضلهم نسبًا، وأصدقهم حديثًا، وأحسنهم وجهًا، ويقال: إنه بكى من خشية الله تعالى حتى ذهب بصره فصار أعمى فدعا قومه إلى الله تعالى و{قَالَ يَا قَوْمٌ اعبدوا الله} أي وحّدوه وأطيعوه {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ} قال بعضهم: مجيء شعيب النبي عليه السلام إليهم آية ولم يكن لشعيب علامة سوى مجيئه وإخباره أن الله تعالى واحد.
وقال بعضهم: كانت له علامة لأن الله تعالى لم يبعث نبيًا إلا وقد جعل له علامة ليظهر تصديق مقالته، إلا أن الله تعالى لم يبيّن لنا علامته، وقد بيّن علامة بعض الأنبياء، ولم يبيّن علامة الجميع.
ثم قال: {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} أي أتموا الكيل والميزان بالعدل {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في البيع والشراء {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض بَعْدَ إصلاحها} يعني: لا تعملوا في الأرض المعاصي بعد ما بيّن الله تعالى طريق الحق وأمركم بالطاعة {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} يعني: وفاء الكيل وترك الفساد في الأرض خير لكم من النقصان والفساد في الأرض إن كنتم مصدقين بما حرم الله تعالى عليكم. اهـ.